الإمام
أبو حنيفة هو فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي
الكوفي ، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة ورأى أنس بن مالك لما قدم
عليهم الكوفة ، وروى عن عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له ، وعن الشعبي
وغيرهم كثير .
وقد
عني رحمه الله بطلب الآثار وارتحل في ذلك ، وأما الفقه والتدقيق في الرأي
وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك كما يقول الإمام الذهبي ،
حتى قال :" وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين رضي الله عنه ورحمه "
وكان
الإمام فصيح اللسان عذب المنطق ، حتى وصفه تلميذه أبو يوسف بقوله :" كان
أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة ، وأنبههم على ما يريد " ، وكان ورعا تقيا ،
شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى ، عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة
فنبذها وراء ظهره ، حتى ضُرب بالسياط ليقبل تولي القضاء أو بيت المال فأبى .
حدث
عنه خلق كثير ، وتوفي شهيدا مسقيا في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة . [
سير أعلام النبلاء 6 \ 390 – 403 ، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة ص 63 ]
أما
المذهب الحنفي فهو أحد المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة ، وهو أول
المذاهب الفقهية ، حتى قيل :" الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة " ، وأصل
المذهب الحنفي وباقي المذاهب أن هؤلاء الأئمة - أعني أبا حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد - كانوا يجتهدون في فهم أدلة القرآن والسنة ، ويفتون الناس
بحسب الدليل الذي وصل إليهم ، ثم أخذ أتباع أولئك الأئمة فتاوى الأئمة
ونشروها وقاسوا عليها ، وقعدوا لها القواعد ، ووضعوا لها الضوابط والأصول ،
حتى تكوَّن المذهب الفقهي ، فتكوَّن المذهب الحنفي والشافعي والمالكي
والحنبلي وتكوّنت مذاهب أخرى كمذهب الأوزاعي وسفيان لكنه لم يُكتب لها
الاستمرار .
وكما ترى فإن أساس تلك المذاهب الفقهية كان قائما على اتباع الكتاب والسنة .
أما
الرأي والقياس الذي أخذ به الإمام أبو حنيفة ، فليس المراد به الهوى
والتشهي ، وإنما هو الرأي المبني على الدليل أو القرائن أو متابعة الأصول
العامة للشريعة ، وقد كان السلف يطلقون على الاجتهاد في المسائل المشكلة "
رأيا " كما قال كثير منهم في تفسير آيات من كتاب الله : أقول فيها برأيي ،
أي باجتهادي ، وليس المراد التشهي والهوى كما سبق .
وقد
توسع الإمام أبو حنيفة في الأخذ بالرأي والقياس في غير الحدود والكفارات
والتقديرات الشرعية ، والسبب في ذلك أنه أقل من غيره من الأئمة في رواية
الحديث لتقدم عهده على عهد بقية الأئمة ، ولتشدده في رواية الحديث بسبب فشو
الكذب في العراق في زمانه وكثرة الفتن .
ويجب
ملاحظة أن المذهب الحنفي المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة ، ليس كل الأقوال
والآراء التي فيه هي من كلام أبي حنيفة ، أو تصح أن تنسب إليه ، فعدد غير
قليل من تلك الأقوال مخالف لنص الإمام أبي حنيفة نفسه ، وإنما جعل من مذهبه
بناء على تقعيدات المذهب المستنبطة من نصوص أخرى للإمام ، كما أن المذهب
الحنفي قد يعتمد رأي التلميذ كأبي يوسف ومحمد ، إضافة إلى أن المذهب يضم
اجتهادات لتلاميذ الإمام ، قد تصبح فيما بعد هي المذهب ، وليس هذا خاصا
بمذهب أبي حنيفة ، بل قل مثل ذلك في سائر المذاهب المشهورة .
فإن
قيل : إذا كان مستند المذاهب الأربعة في الأصل الكتاب والسنة ، فلماذا
وجدنا اختلافا في الآراء الفقهية بينها ؟ فالجواب : أن كل إمام كان يفتي
بحسب ما وصل إليه من دليل ، فقد يصل إلى الإمام مالك حديث فيفتي به ، ولا
يصل إلى الإمام أبي حنيفة ، فيفتي بخلافه ، والعكس صحيح ، كما إنه قد يصل
إلى أبي حنيفة حديث ما بسند صحيح فيفتي به ، ويصل إلى الإمام الشافعي نفس
الحديث لكن بسند آخر ضعيف فلا يفتي به ، ويفتي بأمر آخر مخالف للحديث بناء
على ما أداه إليه اجتهاده ، ولأجل هذا حصل الخلاف بين الأئمة - وهذا
باختصار - ، لكن المعول والمرجع في النهاية لهم جميعا إلى الكتاب والسنة .
ثم
إن الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة في حقيقة أمرهم وسيرتهم قد أخذوا
بنصوص الكتاب والسنة ، وإن لم يفتوا بها ، وبيان ذلك أن كل الأئمة الأربعة
قد نصوا على أنه إن صح حديث ما فهو مذهبهم ، وبه يأخذون ، وبه يفتون ،
وعليه يستندون .
قال
الإمام أبو حنيفة :" إذا صح الحديث فهو مذهبي "، وقال رحمه الله :" لا يحل
لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " ، وفي رواية عنه :" حرام
على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي " ، زاد في رواية أخرى :" فإننا بشر ،
نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا "، وقال رحمه الله :" إذا قلت قولا يخالف
كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي "
وقال
الإمام مالك رحمه الله :" إنما أنا بشر أخطيء وأصيب ، فانظروا في رأيي ،
فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه "
، وقال رحمه الله :" ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من
قوله ويترك ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم "
وقال
الإمام الشافعي رحمه الله :" ما من أخذ إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وتعزب عنه - أي تغيب - ، فمهما قلت من قول ، أو أصَّلت
من أصل ، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت ، فالقول ما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قولي "
وقال
الإمام أحمد :" لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا
الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " ، وقال رحمه الله :" رأي الأوزاعي ورأي مالك
ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار - أي
الأدلة الشرعية "
هذه
نبذه يسيرة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، ومذهبه ، وختاما : لا يسع
المسلم إلا أن يعرف لهؤلاء فضلهم ، ومكانتهم ، على أن ذلك لا يدعوه إلى
تقديم أقوالهم على كتاب الله ، وما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
، فإن الأصل اتباع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال ، فكل يؤخذ من قوله ويرد
إلا رسول الله - صلى الله عليه وسم - كما قال الإمام مالك رحمه الله .
مية مية (Y)
ردحذف